فصل: تفسير الآية رقم (53):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (52):

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52)}
كأن الحق تبارك وتعالى يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: سأجعل خصومك من أهل الكتاب هم الذين يشهدون بصِدْقك؛ لأنهم يعرفونك كما يعرفون أبناءهم، وما جاء في كتابك ذُكرَ في كتبهم وذكِرت صورتك وأوصافك عندهم.
لذلك تجد آيات كثيرة من كتاب الله تُعوِّل على أهل الكتاب في معرفة الحق الذي جاء به القرآن، يقول تعالى: {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} [الرعد: 43].
فهم أيضاً شهداء على صدق رسول الله بما عندهم من الكتب السابقة فاسألوهم.
ويقول تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا والآخرة خَيْرٌ وأبقى إِنَّ هذا لَفِي الصحف الأولى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى} [الأعلى: 16-19].
ويقول سبحانه: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ...} [آل عمران: 199].
وإلا، فلماذا أسلم عبد الله بن سلام وغيره من علماء اليهود؟
إذن: أهل الكتاب الصادقون مع أنفسهم ومع كتبهم لابد أنْ يؤمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، أما الذين لم يؤمنوا فحجبتهم السلطة الزمنية والحرص على السيادة التي كانت لهم قبل الإسلام، سيادةً في العلم، وفي الحرب، وفي الثروة.
وكان من هؤلاء عبد الله بن أُبَيٍّ، وكان أهل المدينة يستعدون لتنصيبه مَلِكاً عليهم، فلما هاجر سيدنارسول الله إليها أفسد عليهم ما يريدون، ونزع منهم هذه السيادة، والسلطة الزمنية حينما تتدخل تعني أن يشترك هوى الناس فيستخدمون مرادات الله لخدمة أهوائهم، لا لخدمة مرادات الله.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ...}.

.تفسير الآية رقم (53):

{وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53)}
هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب إذا يُتْلَى عليهم القرآن قالوا: آمنا به، وشَهِدوا له أنه الحق من عند الله، وأنهم لم يزدادوا بسماع آياته إيماناً، فهم كانوا من قبله مسلمين، فقد آمنوا أولاً بكتبهم، وآمنوا كذلك بالقرآن.

.تفسير الآية رقم (54):

{أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54)}
الحق سبحانه وتعالى يريد أنْ يُعلِّمنا أن الذي يريد ديناً حقاً لابد أن ينظر إلى دين يأتي بعده بمعجزة، لأنه إذا كان قد آمن حين يجيء بعد عيسى رسول، فوجب عليه أنْ يبحث في الدين الجديد، وأنْ ينظر أدلة تبرر له إيمانه بهذا الدين.
هذا إذا كان الدين الأول لم يتبدَّل، فإذا كان الدين الأول قد تبدَّل، فالمسألة واضحة؛ لأن التبديل يُحدث فجوة عند مَنْ يريد ديناً {الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة...} [الأعراف: 157].
آمنوا به؛ لأنهم وجدوا نَعْته، ووجدوا العقائد التي لا تتغير موجودة في كتابه، وهو أُميٌّ لم يعرف شيئاً من هذا، فأخذوا من أميته دليلاً على صِدْقه.
فقوله تعالى: {أولئك...} [القصص: 54] أي: أهل الكتاب الذين يؤمنون بالقرآن وهم خاشعون لله، والذين سبق وصفهم {أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ...} [القصص: 54] أجر لإيمانهم برسلهم، وأجر لإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم.
لذلك جاء في الحديث الشريف: (ثلاثة يُؤْتَوْن أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه مثل آمن بي، وعبد مملوك أدى حق الله وأدى حق أوليائه، ورجل عنده أَمَة- جارية- فأدَّبها فأحسن تأديبها، فأعتقها بعد ذلك، ثم تزوجها).
وهؤلاء الذين آمنوا برسلهم، ثم آمنوا برسول الله استحقوا هذه المنزلة، ونالوا هذين الأجرين لأنهم تعرضوا للإيذاء ممَّنْ لم يؤمن في الإيمان الأول، ثم تعرَّضوا للإيذاء في الإيمان الثاني، فصبروا على الإيذاءين، وهذه هي حيثية {يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ...} [القصص: 54].
وكما أن الله تعالى يُؤتِي أهلَ الكتاب الذين آمنوا بمحمد أجرهم مرتين، كذلك يُؤتي بعض المسلمين أجرهم مرتين، ومنهم- كما بيَّن سيدنا رسول الله: (عبد مملوك أدى حق الله، وأدَّى حق أوليائه، ورجل عنده أَمَةٌ...).
ولا يُحرم هذا الأجر الدين الذي باشر الإسلام، وأتى قبله، وهو المسيحية، فلهم ذلك أيضاً؛ لذلك يقول تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ...} [الحديد: 25] وأهم هذه المنافع {وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغيب...} [الحديد: 25] وذكر الحديد، لأن منه سيصنع سلاح الحرب.
إذن: أنزل الله القرآن لمهمة، وأنزل الحديد لمهمة أخرى؛ لذلك يقول الشاعر:
فَمَا هُوَ إلاَّ الوَحْي أَوْ حَدٌّ مُرْهَف ** يُقيم ظباه أَخْدعَيْ كلِّ مائلٍ

فَهَذا دَوَاءُ الدَّاء من كُلِّ عَاقِلٍ ** وذَاك دَوَاءُ الدَّاءِ من كُلِّ جاهل

ولي أنا شخصياً ذكريات ومواقف مع هذه الآية {أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ...} [القصص: 54] وقد كنا في بلد بها بعض من إخواننا المسيحيين، وكان من بينهم رجل ذو عقل وفكر، كان دائماً يُواسي المسلمين، ويحضر مآتمهم ويستمع للقرآن، وكانت تعلَق بذهنه بعض الآيات، فجاءني مرة يقول: سمعت المقريء يقرأ: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
فألسنا من العالمين، قلت له: نعم أُرسِل محمد رحمة للعالمين جميعاً، فمَنْ آمن به نالته رحمته، ومَنْ لم يؤمن به حُرِم منها، ومع ذلك لو نظرتَ في القرآن نظرة إمعانٍ وتبصُّر تجد أنه رحِم غير المؤمن، قال: كيف؟ فقرأتُ له قوله تعالى: {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس...} [النساء: 105] ولم يقل بين المؤمنين {بِمَآ أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} [النساء: 105].
فمن رحمة الرسول بغير المؤمنين أنْ يُنصف المظلوم منهم، وأنْ يردَّ عليه حقَّه، ثم {واستغفر الله إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 106] لأن الله لا يحب الخوَّان الأثيم ولو كان مسلماً.
ثم ذكرتُ له سبب نزول هذه الآية وهي قصة الدرع الذي أودعه اليهودي زيد بن السمين أمانة عند طعمة بن أبيرق المسلم، وكان الدرع قد سُرِق من قتادة بن النعمان، فلما افتقده قتادة ذهب يبحث عنه، وكان قد وضعه في كيس من الدقيق، فتتبع أثر الدقيق حتى ذهب إلى بيت زيد بن السمين اليهودي فاتهمه بسرقته، وأذاع أمره بين الناس، فقصَّ اليهودي ما كان من أمر طُعْمة بن أبيرق، وأنه أودع الدرع عنده على سبيل الأمانة؛ لأنه يخشى عليه أنْ يُسرق من بيته.
وهنا أحب المسلمون تبرئة صاحبهم؛ لأنه حديث عهد بإسلام، وكيف ستكون صورتهم لو شاع بين الناس أن أحدهم يسرق، ومالوا إلى إدانة اليهودي، وفعلاً عرضوا وجهة نظرهم هذه على رسول الله ليرى فيه حلاً يُخرجه من هذا المأزق، مع أنهم لا يستبعدون أنْ يسرق ابن أبيرق.
وجلس رسول الله يفكر في هذا الأمر، لكن سرعان ما نزل عليه الوحي، فيقول له: هذه المسألة لا تحتاج إلى تفكير ولا بحث: {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} [النساء: 105].
فأدانت الآية ابن أبيرق، ودلَّتْ على أن هذه ليست الحادثة الأولى في حقِّه، ووصفتْه بأنه خوّان أي: كثير الخيانة وبرَّأتْ اليهودي، وصححتْ وجهة نظر المسلمين الذين يخافون من فضيحة المسلم بالسرقة، وغفلوا عن الأثر السيء لو قلبوا الحقائق، وأدانوا اليهودي.
فالآية وإنْ أدانت المسلم، إلا أنها رفعتْ شأن الإسلام في نظر الجميع: المسلم واليهودي وكل من عاصر هذه القصة بل وكل من قرأ هذه الآية، ولو انحاز رسول الله وتعصَّب للمسلم لاهتزتْ صورة الإسلام في نظر الجميع. ولو حدث هذا ماذا سيكون موقف اليهود الذين يراودهم الإسلام، وقد أسلموا فعلاً بعد ما حدث؟
وما أشبهَ هذه المسألة بشاهد الزور الذي يسقط أول ما يسقط من نظر صاحبه الذي شهد لصالحه، حتى قالوا: مَنْ جعلك موضعاً للنقيصة فقد سقطت من نظره، وإنْ أعَنْتَه على أمره، فشاهد الزور يرتفع رأسُك على الخصم بشهادته، وتطأ قدمُك على كرامته.
وقوله تعالى: {وَيَدْرَؤُنَ بالحسنة السيئة...} [القصص: 54] هذه أيضاً من خصالهم أن يدفعوا السيئة بالحسنة، فمن صفاتهم العفو والصفح كما قال تعالى: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43] {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [القصص: 54] النفقة الواجبة على نفسه وعلى آله، والنفقة الواجبة للفقراء وهي الزكاة، ثم نفقة المروءات للمساكين وأهل الخصاصة.

.تفسير الآية رقم (55):

{وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)}
هذه صفة أخرى من صفات المؤمنين {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ...} [القصص: 55] واللغو: هو الكلام الذي لا فائدة منه، فلا ينفعك إنْ سمعتَه، ولا يضرك عدم سماعه، وينبغي على العاقل أنْ يتركه، فهو حقيق أنْ يُترك وأنْ يُلْغى.
ولذلك كان من صفات عباد الرحمن: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً} [الفرقان: 72] أي: لا يلتفتون إليه.
وسبب نزول هذه الآية: لما استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم رُسُل النجاشي وكانوا جماعة من القساوسة، فلما جلسوا أسمعهم سورة(يس)، فتأثروا لها حتى بكَوْا جميعاً، ثم آمنوا برسول الله، ولما انصرفوا تعرَّض لهم أبو جهل ونهرهم وقال: خيَّبكم الله من رَكْب- وهم الجماعة يأتون في مهمة- أرسلكم من خلفي- يعني: النجاشي- لتعلموا له أخبار الرجل، فسمعتموه فبكيتُم وأسلمتُم، والله ما رأينا رَكْباً أحمق منكم، فما كان منهم إلا أنْ أعرضوا عنه.
هذا معنى قول الحق سبحانه: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ....} [القصص: 55].
وهؤلاء مرُّوا باللغو مرورَ الكرام، وأعرضوا عنه، فلم يلتفتوا إليه، وزادوا على ذلك أنهم لم يسكتوا على اللغو إنما قالوا: {لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجاهلين} [القصص: 55] لنا أعمالنا الخيِّرة التي يجب أنْ نُقبل عليها، ولكم أعمالكم الباطلة التي ينبغي أنْ تُترك، فكلٌّ مِنَّا له شَأْن يشغله.
{سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ..} [القصص: 55] والسلام إما سلام تحية كما هو شائع بيننا، وإما سلام للمتاركة كما لو دخلتَ مع صاحبك في جدل، فلما رأيتَ أنه سيطول وربما تعدَّيْتَ عليه فتقول له تاركاً: سلام عليكم. تعني: إنني ليس لديَّ ما أقوله لمفارقتك إلا هذه الكلمة.
ومن ذلك ما دار بين الخليل إبراهيم- عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- وبين عمِّه، فبعد أنْ ناقشه ولم يَصل معه إلى نتيجة قال له: {سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي...} [مريم: 47].
ثم يقول الحق سبحانه: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ...}.

.تفسير الآية رقم (56):

{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)}
هذا خطاب لسيدنا رسول الله، خاصٌّ بدعوته لعمه أبي طالب الذي ظلَّ على دين قومه، ولكنه كان يحمي رسول الله حماية عصبية قربى وأهل، لا محبة في الإسلام، ولله تعالى حكمة في أنْ يظلَّ أبو طالب على الكفر؛ لأنه بذلك كسب قريشاً ونال احترامهم، حيث أعجبهم عدم إيمانه بمحمد وعدم مجاملته له، وأعجبهم أن يظل على دين الآباء، فاحترموا حمايته لابن أخيه، وهذا منع عن رسول الله إيذاءهم، وحمى الدعوة من كثير من الاعتداءات عليها.
لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على أنْ يردَّ له هذا الجميل، وردُّ رسول الله للجميل لا يكون بعرَض من الدنيا، إنما بشيء باقٍ خالد، فلما حضرت أبا طالب الوفاة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عم، قُلْ لا إله إلا الله كلمة أشفع لك بها عند الله يوم القيامة» فقال: يا ابن أخي، لولا أن قريشاً تُعيِّرني بهذه الواقعة، ويقولون ما آمن إلا جزعاً من الموت لأقررت عينك بها.
لكن يُروى أنه بعدما انتقل أبو طالب، جاء العباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: يا محمد، إن الكلمة التي طلبتَ من عمِّك أنْ يقولها قالها قبل أن يموت وأنا أشهد بها.
ونلاحظ هنا دقة الأداء من العباس، حيث لم يقُلْ: إن هذه الكلمة لا إله إلا الله، بل سماها (الكلمة) لماذا؟ لأنه لم يكن قد أسلم بعد.
وسبق أنْ تكلَّمنا في معنى الهداية {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ...} [القصص: 56] وقلنا: إنها تأتي بأحد معنيين: بمعنى الإرشاد والدلالة، وبمعنى المعونة لمن يؤمن بالدلالة، ومن ذلك قوله تعالى: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17] أي: سمعوا الدلالة وأطاعوها، فزادهم الله هداية أخرى، هي هداية الإيمان والمعونة.
يقول تعالى في هذه المسألة: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت: 17] يعني: دللناهم {فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} [فصلت: 17]؛ لذلك حُرموا هداية المعونة.
إذن: الهداية المنفية عن سيدنا رسول الله {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ...} [القصص: 56] هي هداية المعونة والتوفيق للإيمان؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هدى الجميع هداية الدالة والإرشاد، وكان مما قال: {ياأيها الذين آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10].
فهداية الدلالة صدرت أولاً عن الله تعالى، ثم بالبلاغ من رسوله صلى الله عليه وسلم ثانياً.
ثم يقول الحق سبحانه: {وقالوا إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ...}.